
-وانت بخير عمي.
جلس فوزي طوال الليل في ترأس المنزل يفكر ماذا سيفعل إلى أن أخذ قراره، ثم دخل إلى غرفته وجد ليلى وفارس نائمين، قبل كل منهما من جبينه وهو يمسك بيده رسالة، نظر إلى تلك الرسالة ثم عاد النظر إلى ليلى وغادر الغرفة، في تلك الأثناء أفرجت ليلى عن أهدابها ببطء شديد فرأت ظهره وهو يخرج من الغرفة، لم تكن في كامل وعيها ثم عادت للنوم مرة أخرى وكان جوارها تلك الرسالة بدلا من فارس الصغير!
في اليوم التالي رن جرس المنبه، أفرجت تلك الجميلة النائمة عن اهدابها ببطء واطمئنان، اردفت تنظر جوارها بنية ضم صغيرها وتقبيله فانتفضت خوفا وفزعا عندما رأت تلك الورقة التي أخذت مكانه، بالرغم من صغر حجمها إلا أنها تحمل كلمات كالسهام الحادة التي اخترقت قلبها ومزقته إلى أشلاء صغيرة يصعب تجميعها، تلك الكلمات هي:
(آسف ليلى انا اخدت فارس معايا، مش هقدر اسيب ابني هنا يتعذب في الحياة دي ، بامكانك تشوفيه وقت ماتحبي، بعتذر منك مكنتش عايز الوضع بينا يوصل لكده، لكن ماسبتليش خيار تاني، خلي بالك من نفسك)
-لأ لأ لأ لأ لأ لأ لأ لأ لأ لأ.
كانت تلك هي الكلمة الوحيدة التي ظلت ترددها ليلى لبضع دقائق متتالية؛ جراء صدمتها التي لا توصف، إلا أن ادركت رحيل ابنها وحب حياتها معا، زأر قلبها ولسانها بصوت تهتز له الجدران حتى أن قلب فوزي اهتز له بالرغم من انه لم يسمعه.
تعالت صرخات ليلى وهي تنادي:
-فاااااارس فااااااارس ابنييي.
حتى انهارت من البكاء وفقدت وعيها، خرج والدها ووالدتها ركضا على صوت صرخاتها إلى الشارع، إذا بها ملقاة على الارض لا حول لها ولاقوة، قام والدها بحملها بمساعدة من الجيران واخذها إلى المشفى، بعد أن قام الطبيب بفحصها اخبرهم انها تعاني من حالة انهيار عصبي حاد مما ادي إلى فقدانها الوعي ودخولها في غيبوبة.
بينما كانت الفرحة تعم القصر الكبير بقدوم فارس الصغير وفوزي، احتفالات بالطبول والمزامير، الرقص والذبائح، لكن فارس الصغير لم يتوقف عن البكاء فهو طفل رضيع بعمر التسعة أشهر يحتاج إلى والدته، لم يهدأ حتى حملته روبا بين يديها وشعر بالدفء حتى خلد إلى النوم.
دخل فوزي إلى غرفته يتفقده، إذا به نائم في سريره كالملائكة، أقبل عليه وقبل يده الصغيرة ثم قال لروبا:
-روبا دلوقتي ابني بقا مسؤوليتك وبامانتك، هو ماحسش بالأمان غير بحضنك، ارجوكي خلي بالك منه.
-فوزي بيه ماتآخذنيش بس الولز عمره مابيحس بالأمان وهو بعيد عن حضن أمه، ليه عملت كده يا فوزي بيه؟ بعتذر منك بس لو لا سمح الله اتأثر الولد بغياب أمه؟ الموضوع ده صعب عليه جدا في السن ده.
-تعرفي يا روبا انا مش خايف على فارس إنه يتأثر ببعده عن امه اد مانا خايف على ليلى من الموضوع ده، ليلى ماتقدرش تعيش ثانية واحدة من غير فارس، فارس بالنسبالها روحها بتموت فيه، انا خايف عليها اوي بس هي مادتنيش خيار تاني، انا عايز ابني يتربى كويس ومايتعذبش زي ابوه.
-ان شاءالله يا بيه هيكون كل شيء كويس، ماتشغلش بالك بالولد انا هشيله جوا عنيا الاتنين.
-شكرا ليكي يا روبا انا متأكد من كده بامكانك تخرجي.
-تصبح على خير يا بيه.
-وانتي بخير.
~~~
تلك هي الحياة بين الحزن والفرح، بين الموت والحياة، بين الحب والكره، بين القرب والفراق خيط رفيع يفصل بين الشيء ونقيضه، فمن كان يعلم أن فرحة ضاهر بيك ستبني على حزن ليلى، وإعطائه الحياة برؤية حفيده لبعض الوقت تجعل ليلى تصارع الموت في كل لحظة فراق بينها وبين رضيعها.
هناك ضحكات وطبول ومزامير وهنا دموع وسكون وحـ,ـزن، حالة صمت تعم تلك الغرفة التي ترقد بها ليلى، لن نقول فراش الموت فمازال الوقت باكراً ولكن بالفعل كأنه فراش المـ,ـوت في بعد عاشق ومعشوق، فراق قطـ,ـعة من قلبها وجسـ,ـدها وهو ابنها، ظلت ليلى في تلك الغيبوبة حوالي الثلاثة أشهر، في كل ليلة تمر وهي بعيدة عن منزلها ينفطر قلب امها واباها حزنا على ابنتهم، هل ستعود إليهم مرة أخرى ام أن تلك هي النهاية؟
حاول السيد فارس والد ليلى التواصل مع فوزي عدة مرات لكنه لم يجبه، ولم يحاول حتى التواصل معهم كل هذه الفترة؛ خوفاً من أن يضعف أمام ليلى، لم يكن يعلم فوزي بحالة ليلى إلا أن قرأ بالصدفة خبر وفاة والدتها على صفحة الفيس بوك الخاصة بالسيد فارس والدها.
حزن فوزي حزناً شديداً، تملكه الغضب من نفسه بعدما قرأ دعاء والدها بتمنيه شفاء ابنته ليلى، ظل يلوم نفسه مرارا وتكرارا ولكن لن يجدي الندم الآن ولا اللوم ظـ,ـل يكرر ويقول:
-الله يلعنك يا فوزي على عملتك دي الله يلعنك، كنت مفكر انها ممكن تتخطى الموضوع عادي كده ازاي! طلعت اغبى واحد في الدنيا لك، روبا؟ يا روبا؟
دخلت روبا إليه مسرعة:
-بامرك فوزي بيه.
-حضري شنطة سفر لفارس وكل شيء بيلزمه وما تقوليش لبابا شيء.
-خير إن شاء الله يا بيه في شيء؟
-اه هنروح نزور أم فارس، ليلى تعبانه اوي، مقدرش اعيش بالذنب ده طول عمري يا روبا لو لقدر الله جوالها حاجه بسببي، انا مش هسامح نفسي ابدا.
-حاضر يا بيه هروح احضر كل شيء فوراً، إن شاء الله بتكون بخير وبتطمن عليها.
-بسرعة روبا بسرعة بترجاكي.
-بامرك.
اخذ فوزي فارس الصغير وغادر دون علم والده إلى مصر؛ ليعيد فارس إلى أمه، لعله يكفر عن جزء بسيط من ذنبه.
توفيت والدة ليلى حزنا وقهرا على حالة ابنتها، حيث ازداد عليها المرض حتى تمكن منها كلياً، كانت ترقد ليلى في غرفة والغرفة المجاورة ترقد والدتها على فراش الموت، وبين الغرفتين يقف السيد فارس على بحر من الدموع لا نهاية له، فعلى يمينه قطعة من روحة وعلى يساره عشقه الاول والاخير وقلبه الذي ينبض بين ضلوعه.
حالة زوج وأب لا يحسد عليها ولا يتمناها أحد، قبل وفاة والدتها دخل السيد فارس الغرفة واقترب من زوجته، لكنه رآها وكأنه يراها للمرة الأولى في حياته، نفس الملامح التى رآها اول مرة عندما كان عمرها في الثانية والعشرون، وجهها يشع ضوءا، خصلات شعرها المسدول شديد السواد لم يتخلله خصلة بيضاء على عكس ما كان عليه، تعجب قائلاً:
-سبحان الله.
أبتسم وعيناه تدمع قائلاً:
-عارفة يا سلوى انا حاسس اني اول مرة اشوفك وكأني شايفك من تلاتين سنة فاتوا، عارفة وقتها ايه اكتر حاجة شدتني ليكي ضحكتك.