
أنهى الياس كلماته وحملها بين ذراعيه بخفة ثم توجه إلى غرفته، ووضعها على الفراش، ووقف ينظر إليها بضيق وكأن وجودها نفسه عبء عليه. لكن وسط أفكاره الغاضبة، قاطع شروده صوت الخادمة التي دخلت لتخبره مردده :
ألياس بيه… وليد بيه وصل تحت هو ومدام زينة
ارتسمت ابتسامة على شفتيه، وكأن ذكر الاسم أشعل داخله شيئًا مختلفًا و استدار سريعًا وخرج من الغرفة دون أن ينظر خلفه، تاركًا أفنان غارقة في غيابها وبعد فترة، وصل إلياس إلى أحد المنازل الكبيرة، ليكسر هدوء المكان صوت خطوات صغيرة تركض نحوه. ما إن فتح الباب حتى قفزت طفلة صغيرة بين ذراعيه، تعانقه بحب وتردد بسعادة:
ــ “بابا… واحشتني جوي!”
ابتسم إلياس، وربت على خصلات شعرها الناعمة قائلاً:
انتي كمان والله واحشتيني جوي.. اي الجمال دا و
وقبل أن يكمل الياس كلامه اقترب وليد مبتسماً من الخلف وعلق مازحاً:
لا أنا زعلان جوي… أكده تنسيني خالص وأنا ال جاي مخصوص علشانك. يلا هاتي، حضن كبير!”
ضحكت الصغيرة بخجل قبل أن تقفز في أحضان وليد الذي رفعها عالياً، يداعبها بابتسامة عريضة وبعد لحظات، كان إلياس يقف وحيداً في غرفة كبيرة داخل المنزل. الجدران بدت متشققة والأثاث متناثر ومكسور، بينما لفتت أنظاره آثار دماء باهتة على الأرض والجدران، وكأنها تروي قصة مأساوية مضت منذ زمن. عيناه توقفتا على صورة معلقة في منتصف الحائط. اقترب منها ببطء وحدق فيها مطولاً، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة حزينة كانت الصورة لفتاة ذات ملامح بريئة، تخطف القلوب بجمالها. تنهد إلياس بعمق، وبدت على وجهه آثار الذكريات الثقيلة، قبل أن يقطع شروده صوت وليد، الذي دخل الغرفة قائلاً بضيق:
ـها يا ابن عمتي… ناوي علي أي؟ لسه منسيتش طول الفتره دي؟ أنا جولتلك نجتلهم يا إلياس
استدار إلياس نحوه بعينين مشتعلتين، وصاح بحدة:
الجتل رحمه ليهم…و أنا مستحيل أرحمهم بالساهل اكده. وائل لسه عايش اصلا وأنا مش هريحه! لازم يتعذب… على كل حاجه عملها في حياته هو ورقيه.. الاتنين هوريهم العذاب الوان.. هخليهم يندموا انهم عرفوني من الاصل
تنهد وليد بحسرة، واقترب منه محاولاً التهدئة، لكنه لم يستطع كتم غضبه واردف بعصبية:
مينفعش تفضل اكده طول عمرك… تنتجم من كل حاجه. وأفنان ملهاش ذنب! هي حتى محاولتش تجتل شيرين الله يرحمها. سيبها تمشي أو سفرها من البلد. لكن وائل ورقية لازم يموتوا! أنت مستني إيه بعد كل ده؟ كفاية انتجام، يا إلياس
صرخ إلياس بغضب، وكأن الكلمات أشعلت جمرة الألم في داخله مرددا:
كفاية؟! هما مكنوش كفاية ال عملوه في نسمه! وائل الحيوان اعتدى عليها، وبعدين هو واخته الزبالة جتلوها! جتلوا مرتي بكل دم بارد يا وليد ، وبتجولي كفاية؟! أنا مستحيل أسيبهم، والله ما هسيبهم مهما حوصل! وأفنان الغبية ال فاكراني شيطان مش عارفه هما عملوا إي…اصلا رقيه نفسها كانت السبب في دخول ابوا افنان السجن لحد ما مات فيه….و أنا…انا مش جادر أنسى شكل نسمه وهي مجتولة قدامي … هدومها متقطعة، مرميه على الأرض. ورقية بعدها جاية تواسيني كأنها مش السبب، وأخوها الحقير خطب بنت عمي كمان… كأنوا عايشين حياة طبيعية بعد كل ده. مستحيل أرحمهم، مستحيل!”
اقترب وليد منه بخطوات مترددة، قبل أن يمد ذراعيه ويحتضنه، قائلاً بهدوء يشوبه الحزن:
ـطيب… استهدي بالله، ومتعصبش نفسك. أهدي، يا إلياس
القي وليد كلماته بحزن لكن ملامح إلياس ظلت متجمدة، وعيناه معلقتان بالصورة، وكأنهما تعيدان له شريطاً من الوجع الذي لا ينتهي..وفي صباح يوم جديد، كانت أفنان تقف أمام القصر، تنظر إليه بدهشة، بينما يعم المكان حركة نشطة للخدم الذين كانوا ينتقلون من مكان لآخر. اقتربت من إحدى الخادمات، وهي تتمتم:
“هو في إي؟ انتوا سايبني أمشي اكده عادي؟ محدش حابسني ليه؟
ابتسمت الخادمة بحذر واردفت:
“إلياس بيه جال اننا لازم ننفذ أي أوامر تطلبيها يا هانم و
وقبل أن تكمل كلامها، صمتت فجأة وهي تحدق خلف أفنان. فـ التفتت أفنان لترى إلياس يقف أمامهما، نظراته ثابتة وملامحه غامضة. فشعرت بالارتباك لكنها رفعت رأسها متحدية:
إنت عايز إي بالضبط؟ بتخطط لإي؟ أكيد هتجتلني… وفين رقية؟ حـ,ـرام عليك، إنت وديتها فين؟ ده بيت مرتك صوح؟ مرتك التانية ال عندك منها بنت.. انا عارفه كل حاجه علي فكره
بدت كلماتها كالسهم الذي أصاب إلياس، إذ ظهر الغضب في عينيه. واقترب منها بخطوات سريعة، وصوته مليء بالحدة مرددا:
“مين جالك إن بنتي من مرتي دي ال بتتكلمي عنها ؟ بنتي من رقية… هي أم البنت ال بتتكلمي عليها دي
تراجعت أفنان بصدمة، عيناها تبحثان عن تفسير في ملامحه. لكن صوت باب القصر المفتوح شتت انتباهها و فجأة، دفعت إلياس بعيدًا عنها وركضت نحو الخارج بأقصى سرعتها، غير مكترثة بنداءاته المتكررة وما إن وصلت إلى البوابة حتى وقفت في وسط الطريق دون أن تنتبه إلى السيارة المسرعة القادمة نحوها. خرجت صرخة مدوية من إلياس عندما اصطدمت السيارة بها وألقتها أرضًا فـ هرع نحوها بوجه مليء بالذعر، لكنها كانت فاقدة الوعي وفي وقت لاحق، وقف إلياس في المستشفى، ينظر إلى الطبيب الذي أنهى فحصه قائلاً:
“الحالة مستقرة. عندها خدوش وكسر بسيط في القدم، لكن… فقدت الذاكرة. الإصابة أثرت على الرأس، ومش معروف إذا كانت الذاكرة هترجع إمتى.”
القي الطبيب كلماته وترك المكان، فدخل إلياس الغرفة بخطوات مثقلة. وجلس بجوارها، ينظر إليها بتعب مرددا:
حمد لله على سلامتك… حاسة بأي دلوجتي؟”
فتحت أفنان عينيها ببطء، نظرت إليه بارتباك وسألت بصوت ضعيف:
إنت مين؟”
لم يستطع إلياس الرد فورًا، لكنه لم يملك سوى التنهد بإحباط. فجأة، قاطعه صوت أنثوي حاد قادم من خلفه:
“جوزك… دا إلياس جوزك!”
التفت إلياس بسرعة وانفزع من مكانه عندما وجدها تنظر امامه وفجأه و
الفصل الخامس
الغرفة المغلقة
وقف إلياس مصدومًا وعيناه معلقتان على السيدة الجالسة بجانب أفنان، تتحدث بابتسامة وهدوء وكأن الأمر طبيعي تمامًا مردده:
لأ يا جلبي، إنتي بس حوصلك حادثة بسيطة اكده وإلياس جابك المستشفى. وإنتي وهو متجوزين بجالكم خمس سنين، بس يمكن إنتي ناسية بسبب الحادثة ال حوصلتلك
نظرت افنان إليها بتوتر و عدم التصديق يكسو ملامحها وهتفت:
طيب… وإنتي مين؟ إحنا عندنا ولاد ولا لسه؟
تنهد إلياس بضيق وهمّ ليتحدث و لكن قاطعته السيده بسرعة ولهفة: