
ألقى عصام كلماته الأخيرة وخرج من الغرفة دون أن يلتفت و بقيت غيم تحـ,ـدق في الفراغ للحظات بينما الدموع تحرق عينيها، ثم تمتمت بصوت مرتجف بالكاد استطاعت إخراجه من بين شفتيها:
روح… ربنا ينتجم منك… حسبي الله ونعم وكيل فيك.. ربنا ياخدك يا شيخ
بعد مرور بعض الوقت كانت غيم تجلس بجوار جدة عصام التي كانت تحدثها وتبتسم بسعادة بينما عينا غيم لا تفارقان جارح… الأخ الأكبر لعصام، الرجل الذي يترأس العائلة ويدير كل أعمالها بقبضة من حديد. كانت تنظر إليه بانتباه، مبهورة بهيبته المخيفة، بعضلاته المشدودة، وعينيه الرماديتين اللتين تشعان غضبًا وكأنهما تحملان أسرارًا لا تنكشف بسهولة. لم تفهم سبب الحدة الدائمة في ملامحه، لكنها شعرت بوخزة غريبة في قلبها وهي تتأمله، حتى قطع شرودها صوت الجدة، وهي تهتف بحماس:
بس اكده يا بنتي! أنا عايزاكم تيجوا تتغدوا عندنا بكرة. عارفه إنكم لسه عرسان جداد، بس اهو تغيروا جو
ابتسمت غيم مجاملة وردت بلطف:
ان شاء الله يا حجة، حاضر و
ولكن قبل أن تكمل حديثها نهض جارح فجأة واردف بصوت قاطع:
يلا يا حجة عندي شغل مهم ولازم أمشي دلوجتي
هتف عصام بسرعة، محاولا منعه من المغادرة:
ليه اكده يا أخوي؟ خليك شوية لسه بدري
تجاهل جارح كلماته تماما واقترب من غيم ومد يده نحوها بعلبة قطيفة وهو يردف بجمود:
دي هدية جوازك… ألف مبروك
نظرت غيم إليه باندهاش ثم تناولت العلبة ببطء، وعندما فتحتها شهقت بصوت مسموع، وهي ترى طقم ألماس فاخر يلمع تحت الأضواء. رفعت عينيها إلى جارح وقالت بدهشة:
“شكرا… بس مكنش فيه داعي، دي شكلها غالية جوي
حدق فيها جارح للحظات ثم رد بصوت حاد :
مفيش حاجة تغلى على مرت ابن العرجاوي… احنا هنمشي
ألقى كلماته القاطعة ثم أمسك بيد جدته وغادر المنزل دون أن يلتفت لم يكد يختفي من الباب حتى سحب عصام العلبة من يد غيم بعنف نظر إليها باشمئزاز قبل أن يتمتم بسخرية:
متستاهليش هدية زي دي… انتي أصلاً متسويش حاجة علشان تاخديها
ثم انحنى نحوها وهمس بصوت منخفض يحمل تهديدًا واضحا:
“خمس دجايج، وتكوني فوق في الأوضة… فاهمة يا مرتي الحلوة
غادر عصام، تاركا وراءه أثرا من الغضب في قلب غيم كانت تحدق في الفراغ تلتقط أنفاسها بصعوبة حتى التقطت أذناها حديثا خافتا بين اثنتين من العاملات الواقفات بالقرب منها مرددين:
مش عارفة والله… عصام بيه مانع أي حد يدخل الأوضة ال في الحديقة حاسة إنه مخبي حاجة كبيرة جوي… أو سر خطير بس احنا مالنا، يا ستي؟ ملناش صالح.”
تصلبت غيم في مكانها وانتباهها انصب بالكامل على كلمات الخادمتين تلاعبت الشكوك في رأسها وشعرت بدافع لا يمكن تجاهله يدفعها للتحرك. نهضت بهدوء واتجهت إلى الحديقة، عيناها معلقتان بالغرفة المعزولة في زاويتها ووقفت أمام الباب، حاولت فتحه لكنه كان مغلقا بإحكام زاد ذلك من توترها فالتقطت حجرا من الأرض، وضربت القفل بقوة مرة… اثنتين… حتى انكسر أخيرًا بصوت معدني حاد فـ تقدمت داخل الغرفة المظلمة أنفاسها مضطربة شعرت برائحة غريبة تملأ المكان، رائحة تراب مبلل… ورائحة أخرى أكثر نفاذا أشبه برائحة الموت. لم يمر وقت طويل حتى اصطدمت عيناها بمشهد جعل صرخة فزع تشق سكون المكان كانت الأرض محفورة والرمال مبعثرة، ومن بين ذراتها… ظهرت يد بشرية شاحبة، جامدة تمتد من تحت التراب وكأنها تحاول النجاة قبل أن يخونها الزمن فـ اتسعت عينا غيم ووضعت يديها على فمها تحاول استيعاب الكارثة التي أمامها ثم شهقت بفزع وهي تهمس بصوت مرتعش:
جثة… يا لهوي جثة مين دي عاد و
ولكن قبل أن تكتمل كلماتها شعرت بضربة قوية أسفل رأسها. لم تمهلها اللحظة حتى تدرك ما يحدث فقط اجتاحها الألم للحظة خاطفة… قبل أن يسود الظلام تمامًا، وتتهاوى على الأرض بلا حراك و
الفصل الثاني
العذراء والصعيدي
كانت غيم ممددة على الفراش في غرفتها.. حتى فتحت عينيها بألم وهي تمسك رأسها ولكن انصدمت عندما وجدت أمامها عصام والجده التي اردفت بقلق:
مالك يا بنتي؟ إي ال حوصلك؟ انتي كويسة؟
انتفضت غيم جالسة وهي تستعيد في ذهنها صورة الجثة التي رأتها ثم صرخت بانفعال:
أنا شوفت جثة تحت.. كان فيه جثة في أوضة الحديقة ال تحت.. أنا شوفت جثة هناك جسما بالله العظيم
اتسعت عينا الجدة بخوف وهي تردد:
جثة؟ جثة مين عاد؟ إنتي بتجولي إي يا بنتي؟ في إي؟ عصام.. مش جولت إنك لاطيتها مغمي عليها في الأوضة هنا؟ يبجى حديقة وأوضة إي بجا
رد عصام بتوتر وهو ينظر إلى غيم بضيق:
مش عارف يا حجة.. هي تصرفاتها غريبة جوي.. أنا مش فاهم مالها بالظبط.. اهدي يا غيم واجعدي يا حبيبتي استهدي بالله و
لم ينهي عصام كلماته حتي قاطعته غيم التي صرخت بغضب:
بجولك إي؟ متجننيش أنا مش ناجصة هبل! تعالوا معايا يلا أنا هوريكم بنفسي الجثه علشان تتأكدوا
ألقت غيم كلماتها وخرجت من الغرفة وبعد فترة قصيرة كانت تقف داخل الغرفة الموجودة في الحديقة مصدومة مما تراه.. الأرض نظيفة تماما، لا أثر لأي فوضى أو جثة وكأن كل ما حدث كان مجرد خيالات في رأسها فـ وقف عصام ينظر إليها ببرود قبل أن يرد بسخرية:
اي يا روحي؟ فين التراب؟ فين الجثة؟ فين الأرض المحفورة؟ مش كنتي بتجولي إنك شوفتي كل دا؟ شكله كان تخيلات ولا بتحلمي
ردت غيم بعصبية وهتفت:
هو إنت هتجنني ولا إي؟ بص.. أنا عايزة أطل مش هجدر أستحمل الوضع دا.. طلجني يلا دلوجتي حالا.. طلجني الدجيجه دي
ساد الصمت للحظات قبل أن ينظر الجميع إليها بصدمة فـ اردف جارح بضيق:
يا حجة.. شكل العروسة أعصابها تعبانة.. أنا بجول خليهم يجعدوا عندنا يومين تلاتة يمكن تهدى أعصابها.. يلا يا عصام اطلعوا حضروا حاجتكم
نظر عصام إليه بتوتر قبل أن يتحرك مع الآخرين لمغادرة المكان بينما بقي جارح في الغرفة ينظر إلى الأرض بتمعن حتي انتبه فجأة إلى بعض الأتربة المتراكمة في أحد الأركان واردف:
فيه حاجه غريبه.. انا حاسس ان كل دا مش تخيلات.. فيه حاجن بتوحصل وانا لازم اعرفها في اسرع وجت
وفي صباح يوم جديد في قصر فاخر كان جارح يقف داخل غرفته عاري الصدر يلف منشفة حول خصره بعد استحمامه. وبينما كان يتأهب لارتداء ملابسه اقتحمت الغرفة فتاة تحمل ملامح غاضبة وتحدثت بلهفةٍ واضحة:
جارح.. البنت ال اسمها غيم دي إي ال جابها اهنيه…. أنا مش بحبها بكرهها ومش طايجاها! مشيها من اهنيه يلا حالا و
لم تكمل الفتاة كلماتها حتى التفت إليها جارح بغضب وسحب قميصه ليرتديه بسرعة قبل أن يصرخ بحدة:
إي….. إنتي مجنونة ولا اي عاد؟ إزاي تدخلي الأوضة اكده وتتكلمي وأنا في الوضع دا… في إي يا بنت عمي؟ مش معنى إني سايبك تعملي ال إنتي عايزاه… تفتكري إنك بجيتي صاحبة الدار! وبعدين غيم دي تبجى مرت عصام يا لؤلؤ
تجمدت لؤلؤ في مكانها للحظات ثم نظرت إليه بوجهٍ متجهم قبل أن تخرج من الغرفة غاضبة ووقف جارح أمام المرآة يمرر المشط في شعره محاولًا تهدئة أفكاره لكن صوت طرقات على الباب قطعت لحظته تلك ولم تمضِ ثواني حتى دخل أحد الحراس قائلا بوجه جاد:
يا بيه… معرفناش حاجة.. بس بيجولوا إنها مختفية بجالها شهرين.. ومفيش أي معلومات تانية عنها
تجمدت يد جارح فوق رأسه وتأمل الحارس بصمت مرددا:
راحت فين عاد.. تبجي مصيبه لو كلام غيم صوح.. لع مستحيل… عصام مستحيل يعمل اكده
القي جارح كلماته بضيق وفي المساء، اجتمع الجميع حول مائدة الطعام بينما ساد الصمت أجواء المكان حتى قطعت الجدة السكون بقولها:
هو انتوا مش ناوين تروحوا شهر العسل ال بتجولوا عليه دا يا ولاد؟ هتفضلوا جاعدين اكده… أنا عايزاكم تغيروا جو زي باجي العرسان بدل الحزن ال علي وشكم دا
تنهد عصام بضيق وهو يرد:
أنا جولت لـ غيم كتير بس هي مش بتوافج.. مش فاهم مالها بالظبط كل ما أجولها على حاجة ترفض شكلها مش عايزه تبجي معايا و
لكن قبل أن يكمل عصام حديثه جاء صوت امرأة يقطع كلماته قائلة بنبرة غاضبة:
هي برده ال مش عايزه تبجي معاك يا ابن الصعيدي ولا انت ال لحد دلوجتي ملمسـ,ـتش بنتي… بنتي ال لسه بنت بنوت لحد اللحظه دي