جلسا في ركنٍ قصيّ من المقهى، يعبُق بالماضي، حيث المقاعد الخشبيّة قد شاخت تحت عبء الحكايات، ورائحة البنّ تعبق في الأجواء كأنها نشيد الصباح.
قال محمد وهو يُقلب فنجانه:
_عارفة؟ ساعات بحس إن البنّ ده شبه الدنيا… أولها مُرّ، وبعدين لما تتعودي عليه تحسيه أحنّ من حضن أمّ.
ابتسمت إسراء وهي تحرّك ملعقتها في الفنجان وقالت:
_يمكن علشان متعوّد عليه؟
قال وهو ينظر في عينيها بنبرةٍ هادئة:
_أنا متعود على المُرّ، بس أول مرة أحس إن في حد يقدر يخلّيني أنسى طعم المرارة.
احمرّ وجهها كأن الخجل سُكب عليه، ثم قالت وهي تخفض بصرها للفنجان:
_مش عارفة أرد… بس كلامك مش بسيط.
ارتشف رشفة من قهوته وقال بنبرة نصفها صدق ونصفها مزاح:
_بحاول أخلي الكلام يطلع زي القهوة… سخن وصريح.
صمتت لحظة ثم قالت:
_بس القهوة ساعات بتلسع، ما تخافش تلسع اللي قدامك؟
قال وهو ينظر لها بجديةٍ لم تعهدها منه:
_أنا مش بخاف، اللي بيخاف مبيعرفش يحب.
وساعات اللي بيحب بيوجّع، بس اللي قدامه لو صادق هيتقبل اللسعة… ويحليها.
نظرت له نظرة طويلة، كأنها ترى فيه شيئًا أليفًا ومألوفًا، ثم قالت:
_بس الحب مش لعبة، مش كلمتين واتقالوا في قعدة قهوة.
ابتسم وقال وهو يسند ذراعه على الطاولة:
_الحب مش كلمتين، ولا لعبة، ولا حتى قعدة قهوة…
الحب يا إسراء، زي المطر، ييجي فجأة، وساعات يخلّي الأرض تورق وساعات يخلّيها طين.
ضحكت وقالت:
_يعني احتمال تكون طين؟
رد وهو يرفع فنجانه وكأنه يحلف به:
_وأنا عمري ما وعدت بالطين.
ساد بينهما صمتٌ طفيف، لا تثقله الكلمات بل يملأه الحضور.
ثم قالت إسراء وهي تفرك أصابعها:
_طب وإنت؟ عمرك جرّبت تحب؟
ارتبك قليلًا لكنه ستر ارتباكه بمزحة:
_أنا؟ دا أنا في الإعدادي كان عندي crush على بنت اسمها منى، ولما قالتلي شكلك غريب قررت أعيش بقى من غير حب.
ضحكت وقالت:
_طب دلوقتي؟ مش شايف إنك تستاهل تعيش حكاية تانية؟
قال وهو ينظر للشارع خلفها كأن عينيه تهربان منها:
_أنا بحب الحاجات اللي بتيجي من غير ميعاد… اللي زي قعدة القهوة دي.
ابتسمت وهي تنظر لفنجانها وقالت:
_يعني مستني إيه؟
ابتسم، لكن ابتسامته هذه المرة كان بها ألف سؤال.
وأمام المقهى، مرّ عابرون وضحكات متناثرة في الهواء، وداخل المقهى ظلّت النظرات عالقة بين فنجانين ينتظران الإجابة.
النهاية…
“يا طَريقاً شُبِّهَ بالسراب،
تَلاقى فيهِ الغَريبُ بالغَريبة،
كأنَّما كَتَبَ الدهرُ في صَفحاتِه
قصيدةً لم تكتمل أبياتُها…
حديثٌ نَدى في صَدرِ اللَّيلِ،
وخَطوةٌ في دربٍ تَكتُمُ أسرارَها،
فهل كانَ اللِّقاءُ مَحضَ صُدفةٍ،
أم بَذرةَ قَدرٍ يَنتظرُ مَوسِمَهُ؟
يا أيُّها السَّائِرُ في ظُلمةِ التَّرَحالِ،
أما زِلتَ تَجهلُ:
أَتُكمِلُ المَسيرَ، أم تَعودُ القَهقرى؟”