
وشم على جدار الصمت الفصل الأول والثاني والثالث والرابع بقلم هيثم صالح حصريه وجديده
في الزقاق الضيق، كانت رؤى تمشي ببطء، عيونها شاردة في كل شيء إلا في نفسها. الجدران المحيطة كانت تغطيها طبقات من الطلاء القديم، لكنها كانت تعرف أين تجد تلك الزوايا المهملة التي تحمل رسوماتها السرية. كانت تدير ظهرها للجميع، تجنبًا للعيون الفضولية.
“ليه ما ترديش على حد؟” قالت لها جارتها سوسن يومًا ما، وهي تراقبها من نافذتها. “إنتي دايمًا لوحدك.”
كانت رؤى تبتسم ابتسامة صغيرة، لكن عيونها كانت مليئة بالصمت.
“مش فارقة معايا، سوسن.” قالت بهدوء، وهي تواصل السير دون أن تلتفت.
سوسن كانت تعرف أن هناك شيئًا مختلفًا في رؤى، لكنها لم تكلف نفسها عناء معرفة السبب. هي فقط كانت تردد كلمات الجيران المعتادة: “البنت دي غريبة، مش من هنا.”
ومع ذلك، لم تكن تلك الكلمات هي ما شغل تفكير رؤى. كانت تركز على شيء آخر. على جدران الحي المهدم، حيث وجدت صوتًا لن يسمعه أحد. لوحاتها كانت هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن نفسها. وكل رسمة على الجدار كانت بمثابة صرخة لم يسمعها أحد. كانت تعرف أن أحدًا لن يهتم بها، لكن الفكرة نفسها كانت تمنحها طمأنينة. في كل مرة كانت ترسم، كان شيء في داخلها يهدأ قليلاً.
في إحدى الأمسيات، بينما كانت عائدة إلى الزقاق بعد يوم طويل من الصمت، صادفت أدهم، الصحفي الذي سمع عن الجداريات المجهولة.
“إنتي من الناس اللي رسموا دي؟” سألها بلطف، وهو يشير إلى الجدار الذي كانت قد رسمت عليه صورة لامرأة حزينة تحمل في يدها وردة ذابلة.
نظرت إليه دون أن تجيب فورًا، ثم قالت بصوت خافت، “ممكن.”
“ليه مفيش حد يعرف عنك؟” سأل وهو يخطو خطوة أقرب.
“مش عايزة حد يعرف.” قالت، وعينها تلتقط اللمعة الغامضة في عينيه. “كل شيء هنا كفاية.”
أدهم كان يحاول أن يفهم، لكنه شعر بشيء غريب. كان يعرف أن هناك قصة خلف هذه الرسومات، قصة لا يريد أحد أن يعرفها. كان يريد أن يكتشفها، لكن رؤى كانت عازمة على أن تظل لغزًا.
“أنا مش هنا علشان أزعجك، بس… في حاجة في الرسومات دي بتخليني عايز أفهم أكثر. في حاجة مش واضحة.”
رؤى ابتسمت ابتسامة عابرة. “مفيش حاجة مش واضحة، كل شيء هنا واضح، بس أنت مش شايفه.”
أدهم شعر بشيء ما يوجعه في قلبه. كان هناك ألم في كلماتها، ألم عميق، لكنه لم يعرف كيف يتعامل معه. حاول أن يغير الموضوع، لكنه شعر أنه يتكلم في دائرة مفرغة.
“الناس هنا بتتكلم عنك.” قال محاولًا كسر حاجز الصمت. “بيقولوا إنك غريبة.”
“وإنت رأيك إيه؟” سألت بفضول.
“مش عارف.” أجاب وهو يرفع يديه في استسلام. “ممكن بس أقول إنك مش زي أي حد قابلته.”
“إنت مش الوحيد.” قالت رؤى، وقد تحولت نبرة صوتها إلى شيء أكثر حدة. “كلهم نفس الكلام.”
كان أدهم يراقبها بصمت، يدرك أنه ربما كان يحاول فهم شيء لن يفهمه أبدًا. ثم التفتت رؤى فجأة، مبتعدة عنه بخطوات ثابتة نحو الجدار التالي الذي كان في انتظاره.
“إنت هتتابعني؟” سألته بصوت منخفض.
“لو كنت حابة أتابعك، كنت هاعرف مكانك.” رد أدهم، وقد شعر أنه اقترب أكثر من فهم شيء غامض عنها.
لكن رؤى لم تلتفت إليه، واختفت في الزقاق تاركة وراءها ذلك الجدار الذي كان يحمل قصتها.
وشم على جدار الصمت
الفصل الثاني
في اليوم التالي، لم يكد أدهم يخرج من منزله حتى شعر بشيء غريب. تلك الرسومات التي تركتها رؤى في أزقة الحي كانت تتردد في ذهنه كأصداء لا تهدأ. كل زاوية مر بها كانت مليئة بالألوان، بالوجوه، بالحزن، بالأمل. شيء لم يستطع تفسيره كان يجذب قلبه نحو تلك الجدران المجهولة. ولكن ماذا لو كانت رؤى هي المفتاح لفهم كل هذا؟ لكن هل هو مستعد لاكتشاف ما قد يخفيه الجدار؟ ما قد يخفيه قلبها؟
أخذ أدهم قراره سريعًا. قرر أن يعود إلى الزقاق الذي التقى فيه بها، يبحث عن المزيد من تلك الجداريات. كان يعلم أن هناك شيئًا غير طبيعي في كل هذا، شيء قد يغير مفهومه عن العالم.
عندما وصل إلى الزقاق، كانت رؤى جالسة على الأرض، أمام الجدار الذي رسمت عليه وجهًا غريبًا. كانت عيونها مركزة على الخطوط التي رسمتها بيدها، وكأنها ترى شيئًا لا يمكن للآخرين رؤيته. أدهم اقترب منها ببطء، دون أن يصدر أي صوت. لم يكن يريد أن يزعجها أو يخيفها، لكنه شعر أنه يجب أن يسأل.
“بتحبي تعملي كده ليه؟” سألها، وهو يحاول أن يبدو غير متطفل.
رفعت رأسها ببطء، وعينيها التقتا بعينيه. “علشان دي الطريقة الوحيدة اللي بقدر أقول فيها كل حاجة… من غير ما حد يفهمني.”
أدهم شعر بشيء من التعاطف معها، لكنه لم يكن يعرف ماذا يقول. كان يفكر في كلمات يلتقطها من أفكاره المتناثرة، لكن الكلمات كانت تهرب منه، تمامًا كما تهرب منه كل الإجابات.
“أنا مش عايز أزعجك، لكن في حاجة في رسوماتك بتخليني أفكر إنك مش بس بتعبري عن نفسك، لكن بتقولي حاجة… شيء مش عايزة حد يعرفه.”
رؤى ابتسمت ابتسامة غير مفهومة، وكأنها تردد في ذهنها شيئًا لم تجرؤ على قوله. “كل واحد فينا عنده حاجة مخبيها، حاجة لو عارفينها، ممكن ننهار.”
أدهم شعر بشيء غريب في كلماتها. كان هناك شيء مظلم يحيط بها، شيء لم يكن مستعدًا لمواجهته بعد.
“إنتي ليه مش بتطلعي من هنا؟” سألها بفضول.
أجابته بسرعة، دون تفكير: “عشان هنا ما فيش حاجة بتتغير، كل حاجة ثابتة. مفيش حد بيسأل عننا، ولا حد بيراعي إذا كنا عايشين ولا لأ. هنا لو اختفيت، محدش هيلاحظ.”
كانت كلماتها قاسية، ثقيلة كالحجارة التي كانت محطمة من حولها. أدهم شعر أن هناك جرحًا عميقًا في قلبها، جرحًا قديمًا جدًا، ربما أكثر مما يمكنه فهمه في لحظة.
“إنتي مش لوحدك في دا.” قال أدهم، وهو يجلس بجانبها ببطء. “أنا كمان عندي حاجات مش قادر أقولها.”
رفعت رأسها ونظرت إليه بتمعن، لكن وجهها كان مليئًا بالشكوك. “يعني إنت كمان مش زي الناس العادية؟” قالت، ثم أضافت وكأنها تفكر بصوت عالٍ، “بس إنت مش زيهم، مش زي الناس اللي بتمشي جنبنا من غير ما يشوفونا.”