
قلب من ورق بقلم أمير مروان حصريه وجديده وكامله جميع الفصول
كانت قطرات المطر تنساب ببطء على زجاج نافذة المكتبة، ترسم خطوطًا عشوائية كأنها تحاول كتابة قصة غير مكتملة. جلست يارا خلف طاولة خشبية قديمة، تتكئ بمرفقها على سطحها البارد، وعيناها تتابعان المارة في الشارع المبلل. لطالما شعرت أن لكل شخص هناك حكاية، لكن قصتها وحدها ظلت حبيسة الأوراق التي لم تكتب بعد.
مدّت يدها وسحبت كتابًا من الرف، غلافه ممزق بعض الشيء وصفحاته صفراء من أثر الزمن. فتحته برفق، لتسقط منه ورقة مطوية بعناية. حدّقت فيها للحظات، قبل أن تفردها بأطراف أصابعها المرتجفة.
“إلى من لم أنسها يومًا…
إن ضاع العمر، فلن يضيع قلبي. وإن نسي الجميع، سأظل أذكر. وإن فرّقتنا الحياة، ستبقى روحي تبحث عنك بين الوجوه.”
شهقت يارا بصوت خافت، شعرت بقشعريرة تسري في أوصالها، كأن الكلمات حملت دفئًا غريبًا رغم برودة الطقس. من كتب هذه الرسالة؟ ولمن كانت موجهة؟ ولماذا بقيت منسية بين صفحات كتاب لم يلمسه أحد منذ سنوات؟
لم تكن تعلم أن هذه الورقة ستغيّر حياتها إلى الأبد…
تأملت يارا الكلمات مرارًا، وكأنها تحاول فك شفرة قلب عالق بين الماضي والحاضر. شعرت وكأن هذه الرسالة كُتبت لها، رغم أنها لم تكن تعرف صاحبها ولا قصة الحب التي تخفيها.
أغلقت الكتاب برفق، ثم نهضت من مكانها واتجهت نحو رف الكتب القديمة في زاوية المكتبة، حيث تجمعت الأتربة على الأغلفة المهملة. بدأت تبحث بعينيها بين العناوين، وكأنها تأمل أن تجد دليلًا يقودها إلى صاحب الرسالة.
“أحيانًا، الأشياء القديمة تحمل قصصًا لم يتوقعها أحد…” تمتمت يارا لنفسها.
لم تكن تعلم أن القدر كان يخطط لأن تصبح هذه الورقة أول سطر في حكايتها الخاصة.
في اليوم التالي، قررت أن تكتب منشورًا على صفحتها الخاصة على فيسبوك، تروي فيه قصتها مع الورقة، وتسأل متابعيها:
“عثرت على رسالة قديمة بين صفحات كتاب مهمل… كلماتها مليئة بالحب والحنين. هل فقد أحدكم حبًا لم ينسَه الزمن؟”
لم يمر وقت طويل حتى بدأت التعليقات تنهال، بعضها يحمل ذكريات قديمة، وبعضها الآخر يشارك قصص حب لم تكتمل. لكن تعليقًا واحدًا كان مختلفًا، بسيطًا وصادقًا:
“أبحث عنها منذ ثلاثين عامًا، ولم أجد سوى صدى صوتها في ذاكرتي… هل يمكن أن تكون هذه الرسالة لي؟”
تسارعت نبضات قلب يارا، وشعرت بشيء غامض يجذبها نحو الحقيقة. من يكون هذا الشخص؟ وهل هذه الورقة ستعيد إحياء قصة حب دفنتها السنوات؟
كانت يارا تعلم أن هناك سرًا مخفيًا بين سطور الورقة… لكنها لم تكن تعلم أن رحلتها في البحث عن الحقيقة، ستفتح أمامها أبوابًا كانت تظن أنها أغلقت منذ زمن بعيد.
قلب من ورق – الفصل الثاني
جلست يارا أمام شاشة هاتفها، تحدّق في ذلك التعليق الغامض الذي هزّ كيانها. لم تكن تدري ما الذي دفعها لفتح نافذة الدردشة وكتابة رسالة قصيرة:
“من أنت؟ وكيف عرفت أن الرسالة قد تكون لك؟”
مرت لحظات ثقيلة قبل أن يظهر الرد:
“أنا أدعى عادل… أحببت فتاة منذ ثلاثين عامًا، لكن الظروف فرّقتنا، وتركت لها رسالة أخيرة داخل كتاب كنا نقرأه معًا دائمًا. منذ ذلك اليوم، لم أراها ولم أجد الرسالة… حتى رأيت منشورك اليوم.”
شعرت يارا بقشعريرة تسري في أوصالها. كيف يمكن لمصادفة بسيطة أن تعيد إحياء قصة حب دفنتها السنوات؟
قررت يارا أن تلتقي به. وفي صباح اليوم التالي، كانت تجلس في أحد المقاهي القديمة، تنتظر الرجل الذي حمل قلبه حبًا لم يقتله الزمن.
دخل عادل… رجل في الخمسين من عمره، يحمل ملامح الزمن على وجهه، لكن عينيه كانتا مليئتين بشوق لا يزال مشتعلًا. جلس أمام يارا، ونظر إلى الورقة التي وضعتها على الطاولة.
“هذه هي…” قال بصوت متهدج. “كتبتها لها قبل أن تسافر بعيدًا، كنت أعتقد أنها ستعود… لكنها لم تفعل.”
نظرت يارا إليه بحزن، وقالت: “هل ما زلت تبحث عنها بعد كل هذه السنوات؟”
ابتسم بحسرة: “الحب الحقيقي لا يموت، حتى لو لم نجد من نحب.”
خرجت يارا من ذلك اللقاء بروح مختلفة، وكأنها أدركت أن الحب ليس في اللقاء فقط، بل في الإحساس الصادق الذي يبقى رغم الغياب.
قررت يارا أن تكتب رواية عن هذه القصة، وسمّتها “قلب من ورق”… الرواية التي ستصل بها إلى قلوب الناس، تمامًا كما وصلت تلك الرسالة إلى قلب صاحبها بعد ثلاثين عامًا.
غادرت يارا المقهى وهي تحمل في قلبها شعورًا غريبًا بين الحزن والانبهار. كيف لحبٍ كهذا أن يبقى حيًا رغم أن الزمن سرق كل شيء؟
عادت إلى المكتبة، جلست خلف طاولتها المعتادة، وبدأت تقلب الورقة بين يديها. شعرت أن هذه القصة لم تكن مجرد مصادفة، بل رسالة خفية من القدر، تدفعها لشيء أكبر.
أمسكت بقلمها وبدأت تكتب:
“إلى أولئك الذين أحبوا في صمت، وإلى القلوب التي لم تجد نصيبها من اللقاء… هذه ليست مجرد قصة، بل صوتٌ دفنته الأيام، وحبٌ عاش في ظل الورق.”
راحت يارا تكتب تفاصيل اللقاء، والمشاعر التي رأتها في عيني عادل، والألم الذي خبأه لسنوات. كانت الكلمات تنساب منها وكأنها تكتب رواية عمرها، لا رواية شخص آخر.
وفي المساء، تلقت رسالة جديدة من عادل: