روايات

عمار البيوت  بقلم فاتن علي راشد حصريه وجديده وكامله جميع الفصول 

عمار البيوت  بقلم فاتن علي راشد حصريه وجديده وكامله جميع الفصول 

انتهت نور من الإفطار، ثم غادرت المنزل دون أن تصعد إلى السطح لتتفقد نباتاتها كما تفعل دائمًا، فقد كانت على عجلة من أمرها، ووعدت نفسها بأنها ستفعل ذلك عند عودتها.

ومرت ساعات يومها سريعًا بين محاضرات الجامعة والتسوق، ثم عادت إلى البيت وهي متلهفة لتناول الغداء مع والدها، لكنها قبل ذلك، حملتها قدماها تلقائيًا إلى السطح، متشوقة لرؤية زرعها الذي أصبح جزءًا من روحها.

ولكنما رأته جعل الدماء تتجمد في عروقها كل شيءٍ كان مقلوبًا رأسًا على عقب
الكراسي، الطاولة، المزهريات كأن زلزالًا صغيرًا قد ضر,ب المكان لم يتبقَ شيءٌ ثابتٌ في موضعه سوى شتلات الورد فقط، وكأنها محصّنة من الخراب الذي عمّ المكان.

وقفت نور في منتصف السطح، يكسوها الذهول، تنظر حولها في صمتٍ مريب…
من فعل هذا؟ ولماذا؟ ولماذا ظلَّ الوردُ سالمًا وسط هذا الدمار؟
كانت تشعر بأن هناك عينًا خفية تراقبها، ولكن من أين؟!

عاد والدها إلى المنزل ولم يجدها، فتوجه مباشرةً إلى السطح، حيث كان متأكدًا من وجودها هناك وبالفعل، صعد ليجدها جالسةً وسط الفوضى، عيناها تائهتان، ونظراتها معلقة بكل شيءٍ محطمٍ من حولها.

اقترب منها وهو يتفحص المكان بصدمة:
_نور ! مين اللي عمل كده؟

رفعت عينيها إليه، وملامحها تغلفها الحيرة والذهول:
_مش عارفة يا بابا، رجعت لقيته كده.

وضع يده على كتفها ليطمئنها، ثم قال بحزم:
_متزعليش يا حبيبتي، أنا هسأل الجيران، يمكن حد يكون شاف حاجة.

هزّت رأسها باستسلام:
_ماشي يا بابا، يلا ننزل نتغدى.

بينما الطعام على المائدة…

جلسا سويًا لتناول الغداء، لكن نور كانت غارقةً في شرودها، تفكر فيما حدث على السطح، كان عقلها يطرح الأسئلة دون إجابات، فلم تلحظ أن يدها كانت تعبث بالطعام دون أن تأكل. لاحظ والدها شرودها، فحاول أن يطمئنها مجددًا:
_خلاص يا نور، هنظبط الروف تاني وهنعرف مين اللي عمل كده، متزعليش نفسك.

زفرت بضيق:
_مفيش يا بابا، بس هو هيستفاد إيه؟! أنا هسأل الجيران بعد الغداء، يمكن حد يكون شاف حاجة.

_ماشي يا حبيبتي، اللي يريحك.

بعدما أنهت نور طعامها، ارتدت حجابها سريعًا، ونزلت لتسأل الجيران عن أي شخصٍ قد يكون صعد إلى السطح أو عبث بمحتوياته. لكن الجميع أجمعوا على إجابة واحدة: “لم يرَ أحدٌ شيئًا”.

ازدادت حيرتها، لكن لم تيأس، فتوجهت إلى الطابق الأول، حيث تعيش الحاجة حكمت، امرأة مسنّة تُعرف بحكمتها واهتمامها بشؤون سكان البناية، لعلّها تكون قد رأت شيئًا.

طرقت الباب برفق، فلم تمضِ لحظات حتى فُتح الباب، وظهر وجه الحاجة حكمت، بملامحها الطيبة التي تكسوها التجاعيد العميقة، وعيناها المليئتان بالحكايات.

_مساء الخير يا تيتة، أنا نور، اللي ساكنة في الدور الأخير، كنت عايزة أسألك لو كنتي شوفتي حد طلع فوق النهارده أو بليل.

ابتسمت العجوز بحفاوة:
_أهلًا وسهلًا يا حبيبتي، اتفضلي ادخلي.

هزّت نور رأسها بلطف:
_لا، شكرًا يا تيتة، مش هطوّل عليكِ.

لكن الحاجة حكمت أصرت:
_لا يصحّ، ادخلي يا بنتي، ده بيتك.

لم تجد نور بُدًا من الدخول احترامًا لإصرار العجوز، جلست على المقعد المقابل لها، بينما تنظر إليها الأخيرة بنظرة فاحصة.

_أنا آسفة يا تيتة على الإزعاج، بس أنا لقيت الروف متكسّر كله بعد ما كنت ظبّطته وعملت منه مكان جميل، فكنت بسأل لو شُفتِ حد طلع فوق.

هزّت العجوز رأسها بحيرة:
_مفيش إزعاج ولا حاجة، يا بنتي، أنا قاعدة لوحدي زي ما إنتِ شايفة، أولادي وأحفادي مش بيزوروني غير يوم الجمعة… لكن أنا بكون فاتحة الباب طول النهار، ولو كان حد غريب دخل البناية، كنت هلاحظه.

توقفت للحظة، ثم أضافت بنبرة خافتة:
_بس…

تسارعت دقات قلب نور وهي تسأل بلهفة:
_بس إيه؟! إيه اللي حصل؟!

نظرت الحاجة حكمت إليها نظرة طويلة، وكأنها تفكر في شيءٍ مهم قبل أن تسألها:

_يا بنتي إيه اللي خلاكي تطلعي الروف وتظبّطيه؟ وصاحب البيت عارف إنك عملتي كده؟

أجابت نور ببساطة:
_لأنه مكان جميل يا تيتة… مفتوح على السماء، والهواء نقي، وإحنا في آخر دور، فليه منستفدش بيه ليه؟!

لكن وجه العجوز ازداد وجومًا وهي تهمس بحذر:
_وهل إنتِ متأكدة… إن ده مجرد سطح؟

ظلت الحاجة “حكمت” تحدق في نور بعينين تحملان تحذيرًا دفينًا، ثم قالت بصوت منخفض، كأنها تخشى أن يسمعها أحد:
_بصي يا بنتي، الأفضل إنكِ تبعدي عن الروف نهائي، ملكيش دعوة باللي بيحصل هناك خصوصًا الأوضة، لأنها مسكونة.

تسمرت نور في مكانها، وحدقت في العجوز بعلامة استفهام، لمعت عيناها بالدهشة قبل أن ترد بتوتر:
_مسكونة؟! أنا مش بصدق في الكلام ده!”

تنهدت الحاجة حكمت، وكأنها توقعت هذا الرد، ثم قالت بحزم:
_يا بنتي، اسمعي نصيحتي، كل اللي ساكنين هنا عارفين، وعشان كده محدش بيطلع فوق المكان ده مش لأي حد.

قطبت نور جبينها، لكنها لم ترغب في الاسترسال أكثر في هذا الحديث، فنهضت قائلة بفتور:
أنا مش مصدقة وعمتًا، شكرًا يا تيتة، سلام، بابا مستنيني فوق.

_مع السلامة يا بنتي وخلي بالك من نفسك.

عادت نور إلى البيت، وصعدت إلى السطح، حيث كان والدها ينتظرها بقلق، لم تخبره بكلام الحاجة حكمت عن “الأوضة المسكونة”، بل اكتفت بسرد أن الجيران لم يروا أحدًا صعد إلى الروف.

_أنا قررت أعيد ترتيب الروف من جديد، مش هسمح لحاجة تبوظ اللي عملته.

_ماشي يا حبيبتي، ولو احتجتي مساعدة، أنا موجود.

_ماشي يا بابا، هطلع أشوف أقدر أعمل إيه دلوقتي، والباقي الصبح إن شاء الله.

صعدت نور مجددًا إلى الروف، حدقت في الأوضة الصغيرة هناك، فشعرت بشيءٍ غريب إحساس ثقيل يُطبق على صدرها، كأن هناك من يراقبها من الداخل! تجاهلت الشعور وبدأت في إعادة ترتيب المكان، جمعت الأغراض المبعثرة، وأعادت إصلاح ما يمكن إصلاحه، لكن الشعور لم يغادرها.

كانت كل بضع دقائق تلتفت حولها بسرعة، وكأنها تتوقع أن ترى شخصًا يقف خلفها، لكن لم يكن هناك أحد أو هكذا بدى لها.

عندما انتهت، شعرت وكأنها تهرب، نزلت السلم بسرعة، وعندما وصلت إلى والدها، كان القلق واضحًا في عينيه.

_مالك يا نور؟ في حاجة؟

_لا، مفيش يا بابا، أنا بس خلصت جزء من التصليح، هكمل بكرا.

_ماشي يا حبيبتي، أنا جهزت لنا عشاء خفيف.

_ماشي يا بابا، هاخد دوش وأغيّر هدومي وأجي على طول.

بينما كانت تأكل، شرد عقلها، واسترجعت اللحظة التي كادت تفقد فيها أعصابها على الروف…

كلما أصلحت شيئًا، انكسر شيء آخر! كان الأمر وكأن المكان يرفض أن يُعاد ترتيبه، كأن هناك قوة غير مرئية تفسد كل ما تحاول إصلاحه.

وقتها، حدقت في الأوضة الصغيرة وكانت تلك اللحظة التي رأت فيها شيئًا ضخماً يتحرك داخلها!

شهقت نور، أغمضت عينيها للحظات، قلبها كاد يتوقف، لكنها عندما فتحت عينيها مجددًا لم يكن هناك شيء!

همست لنفسها بصوت متردد:
“لا أنا بس مراهقة ومش عارفة أركز، ده أكيد مجرد توتر”.

لكنها شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، لم تعد تستطيع البقاء هناك أكثر، فقررت النزول على الفور وعندها فقط، شعرت أنها تنجو من شيءٍ مجهول.

عادت إلى الواقع، والدها يراقبها باستغراب وهي تعبث بالطعام دون أن تأكل.

_نور؟ مالك ياحبيبتي؟

رفعت عينيها إليه، ترددت للحظة، لكنها لم تشأ أن تقلقه، فابتسمت قائلة:
_مفيش يا بابا، كنت بس بفكر في اللي ورايا بكرا.

لكنها كانت تعلم أن هناك شيئًا غامضًا ينتظرها على الروف.

_ ماشي يا حبيبتي، ارتاحي بعد المجهود اللي عملتيه النهاردة.

انت في الصفحة 2 من 3 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
0

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل