
نوفيلا شياطين_الانس اخر_المطاف الجزء_الاخير بقلم سلمي سمير حصريه وجديده
****************
في بيت الفتاة ملك،
وقف والدها أمام باب غرفتها يطرق عليه بخفة، قلقاً من تجاهل خطيبها فهد لعدة اتصالات منه لم يرد عليه رغم موعدهما المرتقب للاتفاق على تفاصيل كتب الكتاب. انتظر للحظات علّها تفتح الباب أو ترد، لكن صمتها زاد من قلقه.
فتح الباب ببطء ودلف إلى الغرفة. كانت ملك مستلقية على سجادة الصلاة، عيونها تغرق في دمـ,ـوعها التي جفت على وجنتيها. مشهدها كان كافياً ليقبض على قلبه، فتقدم وجثا بجوارها، يمسح دموعها بيد مرتجفة، وهزها برفق قائلاً بنبرة قلق مشوبة بالحنان:
“ملك! قومي يا بنتي، إنتِ نايمة كده ليه؟ إيه اللي حصل ومزعلك؟ وليه عيونك مدمعة؟”
فتحت ملك عينيها بتكـ,ـاسل، وكأن الحزن سحب منها كل طاقتها. مسحت بقايا الدموع عن وجهها، ثم قالت بصوت متحشرج يقطر ألماً:
“مفيش يا بابا… كنت بصلي وافتكرت ماما، فبكيت.
إنتَ ليه لسه صاحي؟ مش عندك شغل بكرة؟”
تنهد الأب بحسرة، وقد أثقل صـ,ـدره ما يشعر به من ذنب تجاهها، وقال بصوت خافت:
“لا يا بنتي، مش هروح الشغل. حاسس بإجهاد ومحتاج أريح.
المهم… قوليلي، أنا كنت بتصل بخطيبك فهد وما بيردش. هو مش كان جاي النهاردة نتفق على تفاصيل كتب الكتاب؟”
هزت ملك رأسها بالنفي، وعيناها متعلقتان بالأرض، ثم أجابت بصوت يفيض بالحزن:
“خلاص يا بابا، فهد انتهى من حياتي. كلمني النهارده وطلب مني أسافر معاه بره مصر. لما رفضت، قالي اعتبري اللي بينا انتهى.”
لم تستطع تمالك نفسها أكثر. انفجـ,ـرت في البـ,ـكاء بحـ,ـرقة وألقت رأسها على صدر والدها، تشكو إليه حـ,ـزنها بحـ,ـروف متقطعة ونحيب يهز القلوب:
“أنا مقدرش أسيبك يا بابا! خلاص، هعيش ليك إنت وبس. خلاص مش عايزة أتجوز… مش عايزة أتجوز.”
احتضنها والدها بقوة، وكأنما يحاول أن يزرع في قلبها المكسور شيئاً من الطمأنينة. ربت على كتفها بحنان، وقال بصوت حاول أن يجعله قوياً رغم الألم الذي يعصره من الداخل:
“ملك، يا بنتي، إنتِ أعز حاجة في حياتي. مفيش حاجة تستاهل دموعك دي. ولو علي فهد انا هكلمه واتفاهم معاه ونوصل لحل وسط
رفعت ملك رأسها، تنظر إلى والدها بعيون دامعة مليئة بالحب والامتنان، وكأن كلماته كانت البلسم لجراحها. ابتسمت له ابتسامة ضعيفة يمتلكها اليأس
ربت الأب على ظهر ابنته بحنانٍ عميق، وفي قلبه غصـ,ـة تكاد تخنقه. حدّث نفسه بحزن يكـ,ـسو ملامحه الشـ,ـاحبة:
“رحماك يا الله… ده ذنب الست اللي اشتهيتها وماتت بين إيدي بسبب حقارتي. ودلوقتي بنتي بتدفع الثمن، تتعـ,ـذب وتنكـ,ـسر. أنا لازم أروح لفهد وأحل المـ,ـشكلة، حتى لو ضحيت بسعادتي. المهم إنها تعيش حياتها مع اللي بتحبه.”
رفع رأسها برفق اليه، ونظر في عينيها المبتلتين بالدموع، ثم قال بصوتٍ حاول جعله مطمئناً، رغم ما يعتصره من ألم داخلي:
“اسمعي يا ملك، إنتِ بنتي الوحيدة ومليش غيرك في الدنيا، لكن سعادتك أهم عندي من أي حاجة. لو سعادتك مع فهد، يبقى لازم تسافري معاه وتعيشي حياتك. طول ما إنتِ سعيدة، أنا كمان هكون مرتاح وسعيد.”
هزّت ملك رأسها بوجع، وارتسمت على وجهها ملامح الحزن العميق. وتذكرت آخر مكالمة بينها وبين فهد، حين حاولت الاتصال به عدة مرات، لكنه لم يرد. فأرسلت له رسالة تخبره بقرارها، جاء الرد الذي حطمها. حين كتبت في رسالتها :
فهد سامحني مش هقدر اكمل معاك، كل شيء قسمة ونصيب. لحد كده و كل اللي بينا انتهى، وياريت متحاولش تكلمني تاني.
أنا مش عايزاك، ولو بابا طلب منك نرجع، بلغه إنك مسافر. وياريت متسالش عن السبب لكني فعلا مش عايزاك. عارفة إن كرامتك هتمنعك تكمل مع واحدة مش عايزاك. ياريت تتمسك بكبرياءك… سلام.”
لم تمضِ دقيقة حتى وصل ردّه الذي دمرها كليًا، فقد كانت كلماته أشبه بسكين مزّق قلبها:
الف خسارة للاسف خُدعتُ فيكِ. لا أريد معرفتك بعد ما رأيت أين ذهبتي وتركتيني لتشبعي رغباتك، أيتها الساقطة اكرهك.”
دمعت عيناها قهراً، وشعرت كأن قلبها يُطحن تحت وطأة كلماته الجارحة. نظرت إلى والدها، وحاولت أن تخفي ارتجاف صوتها، وقالت بهدوء ممزوج بالانكسار:
“خلاص يا بابا، فهد اختار طريقه، وأنا اخترت حياتي معاك. انا فسخت الخطوبة، واللي بينا انتهى للأبد.”
شعر الأب بعجزه أمام ألم ابنته، وعاد ليضمها إلى صدره بقوة، كأنه يحاول أن يحتوي حزنها ورجفة جسدها. قال بصوت خافت:
“طيب يا ملك، نامي دلوقتي وارتاحي. اللي فيه الخير ربنا هيقدمه، وإحنا مع بعض دايماً. تصبحين على خير، يا بنتي.”
قبّل فرق رأسها، ودثّرها بالغطاء بحرص، وكأنه يحميها من كل ألم. غادر غرفتها وهو يشعر بمرارة الذنب والخـ,ـذلان، تاركاً ملك تغرق في أحزانها، تتجرع ألم خـ,ـسارتها لحبيب قلبها وشرفها، بسبب ذنبٍ لم تقترفه.
************”
علي الجانب الاخر
وصل رجب إلى شقة نجوان والغضب يغلي في عروقه كبركانٍ على وشك الانفجار. كان قد أقسم في قرارة نفسه أن يُنهي حياة تلك المرأة التي دمرت الكثير وأفسدت حياة من اقتربت منها. فتح باب الشقة بعنف، مستعداً للانقضاض عليها بلا شفقة أو رحمة.لكن ما ان دلف، لفت انتباهه السكون الغريب الذي خيّم على المكان.فالشقة التي كانت دائماً تعج بالضجيج، السهر، والضحكات المزيفة، باتت الآن صامتة كالمقابر. تجوّل بنظره بحذر، ثم أمسك بإحدى الفتيات العاملات هناك وسألها بنبرة حادة:
“هو في إيه؟ هما كل الزبائن راحوا فين؟ والملكة نجوان فين؟”
ضحكت الفتاة بميوعة، ودفعته بخفة نحو الحائط، تحاول إغراءه بنعومة زائفة، وقالت:
“سيبك من الملكة النهاردة، مشغولة ومش فاضية لحد. بعد ما خرجت مع البنت اللي كانت معاك، الراجل اللي بيحميها جالها وطرد الكل. يعني لا في شغل ولا زبائن النهاردة. بس أنا هنا، ما تجي تكمل ليلتك معايا؟ وطمني، البنت اللي كانت سايحة في دمها، جرالها إيه؟”
شعر رجب بحنق داخلي، لكنه سرعان ما أخفى غضبه خلف قناع من الابتسامة الماكرة. ابتلع ريقه ونظر إليها بنظرة خبيثة، ثم قال ببرود مشوب بخبث شيطاني:
“البنت كويسة، الراجل اللي كان معاها غشيم، بس أهي خدت نصيبها.”
ثم أضاف وهو يغيّر نبرة صوته وكأنه يخطط لما هو أكبر:
“المهم، جهزي نفسك. أنا هعمل دماغ دلوقتي وأجي أدلعك وأخليها ليلة ما تتنسيش.”
بينما كانت الفتاة تضحك بغباء وتستعد له، كان عقله يغلي بخططه المظلمة. كان يعلم أن ساعة الحساب قد اقتربت، وأن نجوان لن تنجو مما خططت له. ولكن في هذا العالم، كان لكل فعل ثمن، ولكل قرار عواقب لا يمكن الهروب منها.
ضحكة الفتاة عالية صاخبة، مجلجلة، محملة بالإثارة والرعونة، وقالت بنبرة ماجنة:
“أشطه! هو ده الكلام يا سبع الرجال. روح ظبط الطاسة وما تتأخرش عليا!”
دخلت الفتاة إحدى الغرف وهي تضحك بخفة ودلال، بينما تحرك رجب بخطوات متأنية، وأنفاس ثقيلة مشبعة بالغضب الذي يكاد يحرق قلبه. أغلق باب الغرفة عليها بإحكام، ثم توجه بخطى واثقة نحو غرفة الأفعى نجوان. أخرج من جيبه مسدساً محشواً بالذخيرة، عازماً على إنهاء حياتها دون تردد.
اقترب من الباب، وقبل أن يفتحه، سمع صوتاً رجولياً داخل الغرفة، نبرة ممتلئة بالضيق والاستياء، يقول:
“وبعدين معاكي يا نجوان؟ مش قولنا شغلك يكون متغطي وبعيد عن القلق؟”
توقف رجب في مكانه، أنزل المسدس قليلاً، وأرهف السمع بانتباه شديد. قرر أن ينتظر قليلاً لعله يلتقط شيئاً يعينه على جعل انتقامه أكثر قسوة وشراسة، يشفي بها غليله من تلك المرأة التي أفسدت حياته، وأضاعت شرف أخته الوحيدة بيديه دون أن يدري.
ردت نجوان بتكلفٍ مصطنع، محاولِة تلطيف الأجواء:
“في إيه بس يا باشا؟ كل حاجة تمام التمام وماشية زي الساعة، وكله علشان أرضي سيادتك. وفي الآخر إنت زعلان كمان؟”
سمع رجب صوت الرجل يهمهم بغيظ، ثم انفجر بنبرة غاضبة ممتلئة بالتحذير:
“إنتِ بتستهبلي يا نجوان؟ أومال إيه حكاية البنت اللي كانت شايلها واحد من رجالتها وملطخة بالدم؟ والجثة اللي نزلت من عندك امبارح؟ خلي بالك، كل حاجة بتحصل عندك بتوصلني، وأنا مش فاضيلك ألمي وراكي مصايبك!”
شعر رجب أن الوقت قد توقف. كلماته كانت كصفعة أيقظته، بينما تجمعت ملامح الحقد والغضب على وجهه. أمعن التفكير: هل كانت نجوان تخبئ سراً أكبر مما كان يتوقع؟ وهل يمكن لتلك الأسرار أن تضيف إلى انتقامه طبقاتٍ من الظلام والجنون؟
قبض على مسدسه بقوة مجدداً، لكن هذه المرة، كان ذهنه مليئاً بخطط أخرى. الانتقام لا يجب أن يكون سريعاً، بل موجعاً… موجعاً بما يكفي ليجعلها تدفع ثمن كل دمعة وكل لحظة ذل مرت بها أخته وأي فتاة سقطت في شِباكها.
**********
خفض رجب مسدسه وقرر تأجيل انتقامه، فالأمر بدا أعمق مما توقع. تحرك بحذر، مقترباً أكثر من باب الغرفة، يريد أن يفهم سر نجوان وسر الرجل الذي بدا أنه يدعم أفعالها. أنصت جيداً بينما الحديث يستمر.