روايات

سكريبت رحلة بلا وجهة حصري وجديد بقلم أحمد فايز

اعتدل في جلسته، وألقى بنظره في مُقلتيها، فبدت له كالبحر الذي يختزل في جوفه سرًّا:
_إسراء؟!
إنتِ مش مجرد اسم…
إنتِ حكاية بتتقال من غير صوت، بتمشي في الدنيا وكأن الليل بيتسند عليكِ، والنور بيمشي وراكِ مستنيكِ توصليه.
بتيجي كده… زي نسمة باردة بتهدي نار قلبي، وكأنك حضن وسط العتمة.
معاكِ السكون بيبقى أمان، والليل بيبقى دفا، وكل اللي حواليا بيبقى أبسط وأهدى… علشانك إنتِ.

ابتسمت وهي تتورد خجلًا، وقالت:
_أنا حبيت اسمي أكتر، ميرسي كتير.

ابتسم بمكرٍ وقال وهو يشيح بنظره عنها:
_العفو… نُحن في الخدمة.

تأمّلته لحظة ثم قالت في مرح:
_طب خليني أقولك نصيبك من اسمك بما إن نص الشعب اسمه محمد.
ثم صمتت لحظة قبل أن تهمس، كأنها تكتب شعرًا ارتجاليًا:
_محمد؟
إنتَ اسمك لوحده بركة…
فيك من السَّكينة اللي تطمّن القلب، ومن الطيبة اللي تخلّي الدنيا أهون، كأنك دايمًا بتصلي على قلبي وأنا مش دريانة.
إنت مش بس محمد، إنت السَّكينة اللي ربنا بيبعتها وقت التعب، والونس اللي بيخلي الوحدة تخف.
وجودك… كفاية يخلّي الدنيا أهدى وأحن.

ضحك وقال وقد بدت عليه الدهشة:
_اللَّه! أنتِ شاعرة بقا.

ضحكت وهزّت يدها وقالت:
_هههه لا، مجرد شخبطة كدا… بس بكتب خواطر بعبّر بيها عن ألمي. بس برضه عايزة أعرف سر الفلسفة دي،أنت في كلية إيه؟

رفع رأسه، كمن يُلقي شهادةً عن حياته، وقال:
_بصي، يا سوسو، أنا خريج ثانوية عامة أزهري، بس مكملتش مع إنّي كنت شاطر جدًا وبحب القراءة ولسّه بحبها.
الظروف كانت صعبة… مدخلتش الكلية، بس الشارع علّمني أكتر من الجامعات، علّمني التعامل مع الناس بكل ألوانها، محسوبك لف مصر من شرقها لغربها، شارع شارع…
وبرغم كدا، بجيب مجلدات وبقرأ… في علم النفس وفي العلوم، مش جاهل يعني.

نظرت له بعينٍ فيها العجب وفيها الامتنان:
_واو، ما شاء الله عليك، بجد أبهرتني.

ابتسم وهو يشيح بنظره للنافذة كمن يخفي تواضعه:
_آي خدعة!

نظرت حولها كأنها تفكر في أمرٍ آخر:
_إحنا وصلنا لفين كدا؟

قال وهو يرفع حاجبيه:
_لسّه في إسكندرية!

نظرت له وهي تشهق:
_بجد؟!

ضحك ضحكة صافية وقال:
_هههه لا، بهزر! إحنا في أبو حمص، رُباعية ونوصل دمنهور.

قالت وهي تنظر للنافذة بدهشة:
_بالسرعة دي؟ أنا محستش بالطريق.

أشار لنفسه وقال مبتسمًا:
_شوفتي بقا؟ الكلام معايا بينسيكي الدنيا إزاي؟

ابتسمت ولم تُنكر، ثم سألت في فضول:
_إنت بتشتغل إيه؟

تنهّد وقال:
_بصّي، أنا هقولك على حاجة الأول… أنا لسه مخدتش الرقم، ينفع أحكيلك عن حياتي الخاصة ولا لأ؟
أنا مش برمي بلايَّا عليكي ولا بفرض نفسي، خدي بالك، هي بالحب كدا.

قالت وهي تهز رأسها بحذر:
_بلاش الطريقة العشوائية دي.

ابتسم وقال وهو يقرب منها قليلًا:
_عَ فكرة، أنا ممكن أتكلم معاكي كلام يمكن مش هتفهميه… كلام إتيكيت وكلمتين إنجليزي في النص، معنديش مشكلة، بس ملوش لزمة، والنبي… خلينا على طبيعتنا كدا، وأنتِ كمان فكك من “عوجة اللسان” دي، مش حلوة.

سكتت، لا تدري ما تجيب، وألقت نظرة للركاب الذين رمقوهما بأطراف أعينهم.

ثم…
مرت الساعة كأنها لحظة، وحين بلغوا مشارف دمنهور قال محمد:
_إسراء؟
_نعم؟
_شوفتي لما بتتكلمي بحنية بتبقي طبيعية وقمر إزاي؟ اللي يشوفك دلوقتي ميشفكيش من ساعة وأنتِ بتردي الكلمة بعشرة!

قالت وهي تبتسم في خجل:
_عَلى فكرة… إنت بتحرجني ومبقتش عارفة أرد عليك.

ضحك وقال وهو يشير للنافذة:
_عَ فكرة… إحنا وصلنا.

شهقت وقالت:
_أخيرًا!

قال وهو ينزل من القطار:
_ليه؟ كنتِ في سجن ولا إيه؟

ضحكت وهي تلحق به:
_لا، عادي.

أشار بيده لزاوية قريبة وقال:
_تحبي نشربوا فنجانين قهوة مع بعض؟

قالت وهي تهز كتفها كأنها تستسلم للحظة:
_أها… عادي.

جلسا في ركنٍ قصيّ من المقهى، يعبُق بالماضي، حيث المقاعد الخشبيّة قد شاخت تحت عبء الحكايات، ورائحة البنّ تعبق في الأجواء كأنها نشيد الصباح.

قال محمد وهو يُقلب فنجانه:
_عارفة؟ ساعات بحس إن البنّ ده شبه الدنيا… أولها مُرّ، وبعدين لما تتعودي عليه تحسيه أحنّ من حضن أمّ.

ابتسمت إسراء وهي تحرّك ملعقتها في الفنجان وقالت:
_يمكن علشان متعوّد عليه؟

قال وهو ينظر في عينيها بنبرةٍ هادئة:
_أنا متعود على المُرّ، بس أول مرة أحس إن في حد يقدر يخلّيني أنسى طعم المرارة.

احمرّ وجهها كأن الخجل سُكب عليه، ثم قالت وهي تخفض بصرها للفنجان:
_مش عارفة أرد… بس كلامك مش بسيط.

ارتشف رشفة من قهوته وقال بنبرة نصفها صدق ونصفها مزاح:
_بحاول أخلي الكلام يطلع زي القهوة… سخن وصريح.

صمتت لحظة ثم قالت:
_بس القهوة ساعات بتلسع، ما تخافش تلسع اللي قدامك؟

قال وهو ينظر لها بجديةٍ لم تعهدها منه:
_أنا مش بخاف، اللي بيخاف مبيعرفش يحب.
وساعات اللي بيحب بيوجّع، بس اللي قدامه لو صادق هيتقبل اللسعة… ويحليها.

نظرت له نظرة طويلة، كأنها ترى فيه شيئًا أليفًا ومألوفًا، ثم قالت:
_بس الحب مش لعبة، مش كلمتين واتقالوا في قعدة قهوة.

ابتسم وقال وهو يسند ذراعه على الطاولة:
_الحب مش كلمتين، ولا لعبة، ولا حتى قعدة قهوة…
الحب يا إسراء، زي المطر، ييجي فجأة، وساعات يخلّي الأرض تورق وساعات يخلّيها طين.

ضحكت وقالت:
_يعني احتمال تكون طين؟

رد وهو يرفع فنجانه وكأنه يحلف به:
_وأنا عمري ما وعدت بالطين.

ساد بينهما صمتٌ طفيف، لا تثقله الكلمات بل يملأه الحضور.

ثم قالت إسراء وهي تفرك أصابعها:
_طب وإنت؟ عمرك جرّبت تحب؟

ارتبك قليلًا لكنه ستر ارتباكه بمزحة:
_أنا؟ دا أنا في الإعدادي كان عندي crush على بنت اسمها منى، ولما قالتلي شكلك غريب قررت أعيش بقى من غير حب.

ضحكت وقالت:
_طب دلوقتي؟ مش شايف إنك تستاهل تعيش حكاية تانية؟

قال وهو ينظر للشارع خلفها كأن عينيه تهربان منها:
_أنا بحب الحاجات اللي بتيجي من غير ميعاد… اللي زي قعدة القهوة دي.

ابتسمت وهي تنظر لفنجانها وقالت:
_يعني مستني إيه؟

ابتسم، لكن ابتسامته هذه المرة كان بها ألف سؤال.

وأمام المقهى، مرّ عابرون وضحكات متناثرة في الهواء، وداخل المقهى ظلّت النظرات عالقة بين فنجانين ينتظران الإجابة.

النهاية…

“يا طَريقاً شُبِّهَ بالسراب،
تَلاقى فيهِ الغَريبُ بالغَريبة،
كأنَّما كَتَبَ الدهرُ في صَفحاتِه
قصيدةً لم تكتمل أبياتُها…

حديثٌ نَدى في صَدرِ اللَّيلِ،
وخَطوةٌ في دربٍ تَكتُمُ أسرارَها،
فهل كانَ اللِّقاءُ مَحضَ صُدفةٍ،
أم بَذرةَ قَدرٍ يَنتظرُ مَوسِمَهُ؟

يا أيُّها السَّائِرُ في ظُلمةِ التَّرَحالِ،
أما زِلتَ تَجهلُ:
أَتُكمِلُ المَسيرَ، أم تَعودُ القَهقرى؟”

رحلة بلا وجهة
لأحمد فايز
20/3/2025

انت في الصفحة 2 من 4 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
0

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل