
رواية نور بين السديم الفصل الثاني بقلم يزن الحريري حصريه وجديده
خرجت ليان من المقهى بخطوات سريعة، والمطر يتساقط بغزارة، يبلل خمارها الأسود، لكنها لم تكترث. كان عقلها مشغولًا، وروحها مثقلة بأسئلة لم تكن موجودة قبل ساعات. لم تكن تعرف لماذا أثر فيها حديث سليم بهذا الشكل، ولماذا شعرت وكأنها تنظر في مرآة لم تكن تعلم بوجودها.
وصلت إلى المنزل وهي تحاول ترتيب أفكارها، لكن صوت والدتها قاطع شـ,ـرودها:
“وين كنتِ لهلأ؟ المطر نازل متل السيل!”
وضعت ليان حقيبتها على الطاولة وقالت بهدوء: “تأخرت شوي بالمقهى.”
“المقهى؟!” رفعت والدتها حاجبيها باستغراب، “من إمتى بتروحي عالقهاوي؟”
ترددت للحظة قبل أن تقول: “كنت ناطرة المطر يخف.”
لم تبدُ والدتها مقتنعة، لكنها لم تعلق أكثر، مما منح ليان الفرصة للانسحاب سريعًا إلى غرفتها. جلست على سـ,ـريرها وأغمضت عينيها للحظة، لكن صورة سليم وحديثه كانا لا يزالان في ذهنها.
“بتلاقي المعاني اللي بتدوري عليها؟”
ترددت كلماته في عقلها، كأنها صدى لحيرة كانت تحاول إنكارها.
في الجهة الأخرى من المدينة، كان سليم يجلس في غرفته الصغيرة، ينظر عبر النافذة إلى السماء الرمادية. كان يشعر أن لقاءه بـليان لم يكن مصادفة. هناك شيء ما في عينيها، في طريقة حديثها، جعله يسترجع مشاعر ظن أنه تجاوزها منذ زمن.
جلس أمام مكتبه وأخرج دفترًا قديماً، قلب صفحاته ببطء حتى توقف عند صفحة محددة. كانت تحتوي على كلمات كتبها ذات يوم، عندما كان يبحث عن إجابات تشبه تلك التي رأى الحيرة فيها بعيني ليان.
“كل الطرق تؤدي إلى الضياع، إلا من عرف أين يضع خطوته الأولى.”
ابتسم بسخرية وهو يعيد قراءة الجملة، ثم همس لنفسه: “بس مين قال إنه الواحد بيقدر يقرر خطوته الأولى لحاله؟”
أغلق الدفتر، ونهض ليشرب كوبًا من الشاي الساخن، محاولًا إبعاد أفكاره، لكنه كان يدرك أنه، مهما حاول، فإن هذا اللقاء لم يكن مجرد لحظة عابرة.
في صباح اليوم التالي، دخلت ليان إلى قاعة المحاضرات وهي تحاول أن تبدو طبيعية. جلست بجوار صديقتها مها التي نظرت إليها بفضول وقالت:
“شكلك مو هون، شو القصة؟”
“أنا؟ لا، بس شوية تعب.” أجابت ليان بسرعة، محاولة إخفاء اضطرابها.
“إي طبعًا، شكلك كأنك سهرانة تفكري بشي مهم.”
ضحكت ليان بخفة وقالت: “انسي، مو شي مهم.”
لكن الحقيقة أنها لم تستطع نسيان اللقاء. شعرت أنها بحاجة لفهم أكثر، لذا، بعد انتهاء المحاضرات، وجدت نفسها تسير بلا وعي نحو المقهى نفسه، حيث التقت بـسليم لأول مرة.
عندما وصلت، كان المقهى هادئًا، والمطر قد توقف، لكن سليم لم يكن هناك. جلست في نفس الطاولة التي جلست عليها بالأمس، تراقب المكان بصمت، وكأنها تنتظر شيئًا… أو شخصًا.
مرّت عشر دقائق، ثم سمعت صوتًا مألوفًا:
“ما توقعت شوفك هون مرة تانية.”
رفعت رأسها بسرعة، فوجدت سليم يقف أمامها، يحمل كوب قهوته المعتاد، وعيناه تحملان نفس النظرة التي أقلقتها بالأمس.
لم ترد على الفور، بل اكتفت بالنظر إليه قبل أن تقول بهدوء: “ولا أنا.”
جلس أمامها ووضع كوبه على الطاولة، ثم قال بابتسامة خفيفة: “بس شكلك عندك أسئلة اليوم كمان.”
نظرت إليه للحظة، ثم قالت بصوت منخفض: “وأنت، عندك إجابات؟”
ضحك بخفة وقال: “يمكن، بس السؤال هو: أنتِ مستعدة تسمعيها؟”
في تلك اللحظة، أدركت ليان أن هذا الحوار… لن يكون الأخير.
تبادلت ليان وسليم النظرات، لكن الصمت الذي تخلل لحظتهما لم يكن عاديًا. كان مشحونًا بشيء غريب، شيء لم تفهمه ليان بعد، لكنه جعل قلبها ينبض بسرعة غير مبررة.
حرك سليم كوب القهوة أمامه ببطء، ثم قال: “تعرفي؟ مو كل الأسئلة لازم تنسأل.”
عقدت حاجبيها وقالت: “وشو فائدة إني خليها جواتي بدون جواب؟”
“مو كل شي بحياتنا بيحتاج جواب فوري، أوقات الأسئلة لحالا بتلاقي أجوبتها مع الوقت.”
تأملت كلماته بصمت. ربما كان محقًا، لكنها لم تكن من الأشخاص الذين يحبون الانتظار، ولا من الذين يؤمنون أن الزمن وحده قادر على حل العقد.
سألته فجأة: “وإنت… شو قصتك؟”
نظر إليها باستغراب للحظة قبل أن يبتسم ابتسامة خفيفة وقال: “أي وحدة فيهم؟ عندي كتير.”
شعرت للحظة كأنها وقفت عند باب مغلق، هل عليها أن تحاول فتحه؟ هل تريد أن تعرف أكثر عن هذا الشاب الغامض الذي يثير في داخلها هذا الكم من الأسئلة؟
“احكيلي عن شي بتحس إنه شكّلك.” قالت بهدوء.
نظر إلى المطر المتساقط خلف زجاج المقهى، ثم قال بصوت منخفض: “مرة كنت واقف هون بهالمكان، بنفس الطاولة… بس كنت شخص مختلف.”
“مختلف كيف؟”
أدار الكوب بين يديه وقال: “كنت شخص ضايع، ما عندي فكرة شو بدي من الدنيا، بس كنت متأكد من شغلة وحدة… إني لازم أوقف عن الهروب.”
شعرت بشيء غريب وهي تستمع إليه، وكأن كلماته تلامس جزءًا خفيًا داخلها، جزءًا كانت تحاول تجنبه.
“وهلأ؟” سألته بهدوء.
رفع نظره إليها وقال بثقة: “هلأ، عم جرّب لاقي المعنى، متل ما إنتِ عم تجربي.”
لم تعرف بماذا تجيب. هل كانت فعلًا تحاول العثور على المعنى؟ أم أنها فقط تهرب من حقيقة لا تريد مواجهتها؟
مرت لحظات من الصمت، ثم أخذت ليان نفسًا عميقًا وقالت: “يمكن في شي لازم أواجهه.”
نظر إليها سليم باهتمام: “شو هو؟”
أشاحت بنظرها عنه، تفكر في السنوات التي مضت، في الأحلام التي أجلتها، وفي المـ,ـخاوف التي كانت تتهرب منها. ثم همست بصوت بالكاد يسمع: “حالي.”
ابتسم سليم وكأنه فهم تمامًا ما تعنيه، ثم قال: “وأحلى بداية، إنك تعترفي بهالشي.”
أومأت ببطء، ثم نظرت إلى ساعتها وقالت: “لازم أمشي.”
وقف معها وقال بابتسامة: “بس لا تنسي… مو كل الأسئلة لازم تلاقي جوابها بسرعة.”
نظرت إليه للحظة، ثم خرجت من المقهى، لكنها كانت تعلم أن هذه الجملة ستبقى تدور في عقلها طويلًا.