سكريبت رحلة بلا وجهة حصري وجديد بقلم أحمد فايز
“بين محطات الحياة، قد يكون اللقاء الأصدق هو ذاك الذي لم يُخطط له”.
الإهداء:
إلى صديقي وأخي، محمد العربي…
يا مَن لم تُخفق يومًا في رسم البسمة على وجهي، يا صانع البهجة ورفيق الدرب في تفاصيل الحياة، هذا الإهداء البسيط من قلبٍ يُحبك خالصًا، علّه يُلامس روحك كما لامستَ أنتَ روحي.
يا حبيب أخوك، أتمنّى أن تجد بين السطور ما يُبهجك، كما أبتهج بوجودك في حياتي.
وإلى أولئك الذين يؤمنون بالقدر… وبالصدف التي تُبدّل وجه الأيام كما تفعل الرياح في صحارى الروح، أهديكم هذه الحكاية.
لِمن يترقّبون لقاءً يُعيد اتّزان القلب، لِمَن ينتظرون قصيدةً غير مكتملة، كتب القدر نهايتها بلقاءِ من اختارهم الفؤاد قبل أن تختارهم العيون.
***
المقدمة :
في زمانٍ لا يُقاس بالساعات، ولا تُحدّه الأيام، كان هناك قلبٌ يمضي في دروبٍ مُظلِمة، يبحث عن بصيصٍ من نورٍ يواسي غربته.
تتشابك الأقدار كما تتعانقُ الأغصان في بيداء العمر، حيث لا مفرّ من اللقاء ولا خلاص من الحنين، في عالمٍ يموج بالخذلان، كان الحُبّ قاربًا صغيرًا يتمايل فوق أمواج الخوف، تُداعبه ريح الأمل حينًا وتُغرقه لُجَجُ الفقد أحيانًا.
في تلك اللحظة، حين التقى العابرُ بالغريبة، لم يكن الزمنُ شاهدًا على صدفة، بل كان الكون بأسره ينتظر ذلك الحرف الذي سيسقط من بين الشفاه ليبدأ حكايةً تُروى بلا صوت، وتُبكَى بلا دموع.
هنا… حيث تُكتب الحكايات بالأنفاس، وتُحاك المشاعر من صبر الأيام وألم الليالي، تبدأ رحلتنا.
♡♡♡♡♡
“في زمنٍ تمضي فيه الطرق دون أن نعلم أين المصير، يكفي أن يُلقي القدر بنا في عربة قديمة، لنكتشف أن الحكايات العظيمة تبدأ غالبًا من مقعدٍ صدِئ وكلمة عابرة”.
كان الليل يتسلل كالأفعى البطيئة عبر النوافذ الصغيرة لقطار قديم، يئن فوق القضبان كشيخ هرم، بينما أصوات العجلات تتردد في فضاء السكون، كأنها تردد مرثية لا تنتهي.
في العربة شبه الخالية، جلست هي، وحيدة، عند النافذة، وعينيها غارقتان في العدم.
فتاة في ريعان شبابها، بالكاد تجاوزت العشرين، لكن ملامحها كانت تخون عمرها، فالحزن قد ألقى على وجهها ستارًا رماديًا، وذبلت مقلتاها كزهرتين نسيهما الربيع، والسواد العميق تحت عينيها يفضح ليالٍ طويلة بلا نوم، كأنها تحمل فوق أكتافها عبء مدينة بأكملها.
كانت ترتدي معطفًا داكن اللون، تنكمش داخله كمن يبحث عن مأوى من برد الحياة، ويديها معقودتان في حجرها بإحكام، كأنها تتمسّك بما تبقّى من ذاتها.
لم تكن تلاحظ ركّاب القطار، ولا حتى أصوات الباعة الجائلين التي تتردد من بعيد. كانت الدنيا كلها مشوّشة أمام عينيها، كل ما ترى هو ضوء خافت يمر من بين الأشجار والظلال الراكضة على زجاج النافذة.
وفي المقعد المجاور لها، جلس هو، شاب في أواخر العشرين، يراقبها منذ لحظة جلوسه، ملامحه شرقية أصيلة، وجهه مسمَّر بنور الشمس، عيناه بُنّيّتان، دافئتان كأرض الجنوب بعد المطر، وذقنه الخفيفة تضفي عليه لمحة من الجدية، رغم أن ابتسامته تكشف عن طبع مرح، ونفس خفيفة تعرف كيف تخترق الحواجز.
كان القطار يتهادى في رحلته، كأنه لا وجهة له، كما هي رحلتها هي، بلا مقصد، بلا أحد في انتظارها.
قطع صوته حبل شرودها، صوته دافئ يحمل من الجرأة ما لا يمكن تجاهله وسط هذا السكون:
ــ مالك في إيه؟
رفعت عينيها نحوه، بعينين ثقيلتين، وغيمة من الضيق تعلو وجهها، ثم أجابت بفتور:
ــ إيه؟
كانت كلمتها أشبه بحجر سقط في بئر ساكنة تجاهل برودها، وقال وهو يميل نحوها قليلًا:
ــ بقولك، مالك؟ وشّك كئيب ليه، باين عليكِ تعبانة؟
كان صوته كأنما يحمل عبء الطمأنينة، لكنها لم تكن مستعدة لقبولها، ردّت وهي تمطّ شفتَيها بقرف ظاهر:
ــ مالكش دعوة.
هو الذي اعتاد التعامل مع الأرواح الثقيلة، اكتفى بابتسامة جانبية:
ــ بس سيبك من عوجه اللسان دي!
تأملته، بنظرة ساخطة، كأنها تطعن كبرياءه:
ــ وأنت مالك أنا معوجة ولا معدولة؟! هو إنت تعرفني أصلاً؟
قالها بنبرة ساخرة وهو يريح ذراعه على ظهر المقعد:
ــ لا، معرفكيش، بس حبيت أفكّك من اللي إنتِ فيه… يمكن أكسب فيكي ثواب.
شهقت بسخرية:
ــ ثواب؟! ليه هو أنا واقفة أشحت عند باب السيدة عشان تكسَب فيا ثواب؟
ضحك ضحكة قصيرة دافئة، تتحدى برودتها:
ــ لا والله، دا إنتِ ست الستات، وقمر، كمان… مش شايفة النور اللي مغرقك؟
صمتت، وكأن جدرانها المتعبة بدأت تتصدع لا تزال تُمسك بالنافذة، تنظر إلى الفراغ، لكن ابتسامة خجولة، كأنها تحاول التسلل إلى وجهها قهرًا.
ــ ميرسي، قالتها بخفوت.
في تلك اللحظة، كان القطار يعبر فوق جسر مظلم، والماء تحته يعكس القمر الهارب بين الغيوم، كأنهما مسافران بلا مأوى، يشبهانها هي وهو.
اقترب خطوة أخرى، وقد خفّت حدّة صوته، وصار أكثر عطفًا:
ــ طب بجد… مالك؟ الدنيا مش مستاهلة اللي باين في عينيكِ دا.
سكتت، ظلت تحملق في النافذة، وأصابعه كانت تكاد تلمس جدار الصمت بينهما. شعرت بصدقه، لكنها قاومت، كأنها لا تريد أن تقع في فخ الحنان هذا.
ــ قلتلك، مفيش… وسيبني فحالي.
كان بينهما شيء غريب، مزيج من الشد والجذب، كأنما القطار يسافر بهما داخل نفس الحيرة التي تعتريها، إلى حيث لا يعرفان.
كان القطار لا يزال يشق طريقه في قلب الليل، تهتزّ العربة بين الحين والآخر كأنها تسير فوق أحجار الزمن، والمقاعد تُصدر صريرًا خفيفًا، يزيد من وحشة الرحلة. الريح تهمس عند النوافذ، والمصابيح الخافتة تصنع دوائر باهتة فوق وجوه الركاب.
التفت إليها وهو يميل برأسه قليلًا، كأنه يبحث عن ثغرة في صمتها:
ــ طيب… بتدرسي إيه؟
قالت، دون أن تلتفت، وبنبرة مقتضبة كأنها تلقي كلمة في مهب الريح:
ــ تمريض.
ضحك وهو يعقد ذراعيه ويميل للخلف:
ــ تعرفي… أنا لو تعبان وإنتِ آخر ممرضة في العالم، مش هاخد منك شريط برشام!
قهقه خفيفة تسللت من بين شفتيها، محاولة أن تُخفي ابتسامتها خلف يدها، لكنها خانتها اللحظة.
هو، كأنه وجد المدخل أخيرًا، تابع بنفس النبرة المرحة:
ــ شوفتِ؟ ضحكتي، أهو انتِ كئيبة أوي بجد.
رمقته وهي تعقد حاجبيها بنصف غضب ونصف مودة خفية:
ــ وأنت بارد على فكرة.
ضحك بثقة، وقال وهو يومئ برأسه:
ــ عارف… عارف، بس برضه…
(اقترب منها قليلًا وهمس وكأنه يكشف سرًا)
ــ إنتِ جميلة، من جواكي… وفرفوشة على فكرة، ليه مخبية الضحكة الحلوة وبتصدري الوش الخشب العيان ده على الناس؟
نظرت إليه وهي تحاول أن تتماسك، لكن عينيها خذلتاها، فيها بقايا من الدفء الذي تحاول أن تهرب منه.
ــ وأنت بقى، مُحلل نفسي وأنا معرفش؟
ضحك وقال وهو يرفع حاجبيه بمبالغة:
ــ لا مُحلل ولا مخلل.
أسند ظهره واعتدل في جلسته كمن يستعد لحديث أطول:
ــ بس بجد… مفيش حاجة اسمها “أنا عادي”.
(أشار بيده نحوها)
ــ أنتِ درستِ ابتدائي، إعدادي، ثانوي، ودلوقتي كلية، يعني دماغك غير دماغ أي حد…
(صوته صار أكثر جدية وهو يكمل)
ــ بتعاملي مع دكاترة، وناس بيحكولك روايات عن الحياة والموت، وبتعيشي ده يوم بيوم، فـ ليه… ليه تصدري الطَاقة السلبية دي للناس؟!
كانت كلماته كأنها تصطدم بشيء داخلها، لم تردّ، ولكن أصابعها كانت تعبث بحافة كمّها كأنها تبحث عن إجابة داخل طيّات القماش.
كان الأوتوبيس يشقُّ الطريق بين المدائن، تصهل عجلاته على الأسفلت كأنّها خيلٌ جامحة، والهواء يدور في جوفه كنواح الريح.
قال، وقد تغشّت نبرته بجدِّ الهزل:
_دكاترتك مقالتش ليكِ إن نص العلاج كلام طيب مع المريض؟ تخيّلي لو حد داخل والدنيا سودة قدامه ومرضه مزمن، دورك تهوني عليه وتحسسيه إنه هيعيش وهيعدّي المرحلة دي.
ابتسمت في خفرٍ وقالت:
_وعلى كدا ساعدتك بتدرس إيه؟
أمال رأسه يسرةً كأنّه يزهو بمعرفته وقال:
_مبدرسش… أنا جاهل، بدرس في حتة تانية.
ضحكت ملء فيها، وقالت في دهشةٍ:
_فين يعني؟
نظر لها بعينٍ فيها من المكر نصيب، ومن الودِّ ضعفاه:
_هَبقى أحكيلك بعدين لما ناخد الرقم.
رفعت حاجبيها، وقالت وهي تقطع ضحكتها نصفين:
_والله؟ دا أنت واثق من نفسك أوي.
قال وهو يرقب قسمات وجهها كما يرقب البدويُ نجم السَّماء:
_يعني بالله عليكي، مش عاوزة الرقم؟
أطرقت برهة كأنّها تقاوم ذاك المزاح المُنزّه عن السوء، وما لبث أن عاجلها:
_اكتبي عندك 010، ولا هاتي الموبايل أكتبلك أنا.
قالت وهي تكاد تغالب حياءها:
_إنت إزاي كدا؟
اعتدل في جلسته وقال وهو يشير إلى نفسه بفخرٍ خفيّ:
_أنا محمد، وأنتِ؟
سكتت، كأن لسانها انعقد بين بين.
قال وهو يداعب صمتها:
_يا بنتي، ملكيش اسم ولا إيه؟ ولا أخمن أنا؟
قالت وهي تخفض رأسها قليلًا:
_إسراء.
ابتسم بملامح تعلوها الأريحيّة وقال:
_بيقولوا إن لكل شخص نصيب من اسمه، يا سوسو.
ارتبكت من دلعه المُباغت وقالت:
_معرفش نصيبي إيه… بس أسماء ربنا كلها جميلة.
ابتسم وقال بصوتٍ رخيم كأنّه يُنشد أنشودة العُشّاق:
_طيب خليني أقولك أنا.